الافتاء: الصلاة بالكمامة جائزة شرعًا ولا تدخل في النهي عن تغطية الفم والأنف في الصلاة
قالت دار الإفتاء المصرية: "لا يخفى ما في التعايش مع الوباء من ضرورة أن تصبح الإجراءات الوقائية ثقافة سائدة في مزاولة حياتنا في التجمعات، والأسواق والمواصلات، وفي التعامل مع الناس في كافة الجهات؛ فلا يرتبط تنفيذها بتوقع العقوبة القانونية على تركها، بل ينبغي جعلها أسلوبًا للحياة في هذه الظروف، بعد أن ثبت أنها تحقق سلامة الإنسان في نفسه وسلامة الناس من حوله".
وأضافت الدار -في بيان لها- أن كل ذلك مأمور به شرعًا، فصار الالتزام بذلك عبادة دينية وواجبًا شرعيًّا؛ لأنه يتوصل به إلى حفظ النفس، وهو مقصد شرعي مرعي، والوسائل لها أحكام الغايات، فإذا نوى الإنسان بها ذلك نال ثواب إحياء الناس جميعًا؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
وأشارت إلى أن الشريعة الغراء تمتاز بالشمول في أحكامها، وتدعو إلى التوازن بين مقاصدها الشرعية ومصالح الخلق المرعية، وفيها من المرونة ومراعاة الأحوال والتكيف مع الواقع ما يجعل أحكامها صالحةً لكل زمان ومكان، وفي كل الظروف. وهذا يمكِّن المسلمَ من التعايش مع الوباء مع الأخذ بأسباب الوقاية؛ دون أن يكون آثمًا بترك فريضة، أو مُلامًا على التقصير في حفظ نفسه وسلامتها.
وأوضحت الدار أن النصوص أكدت على أن حفظ النفس هو أهم المقاصد العليا التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، وأن سلامة الإنسان في نفسه وماله أعظم عند الله حرمةً من البيت الحرام؛ فقال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ ولَا ضِرَار»، فإذا تعارضت سلامة الإنسان في نفسه مع واجب من الواجبات أو فريضة من الفرائض، قدمت سلامته، وروعيت صحتُه.
وحول كيفية التعايش مع جائحة انتشار فيروس كورونا (كوفيد 19) أشارت دار الإفتاء إلى أن عودة الحراك المجتمعي الحَذِر المقيد بوسائل الوقاية ومنع التلاصق والازدحام، يمكن أن يرافقه عودة فتح المساجد وإقامة الجمع والجماعات، ولكن يستثنى من ذلك الأماكن المعزولة من قِبل السلطات المختصة؛ بسبب وجود مرضى الوباء فيها وتحرزًا من زيادة انتشاره فيها أو خارجها، والمستشفيات والمدن الجامعية المخصصة للتعامل مع مرضى كورونا.
وبينت الدار أن الشرع الشريف أسقط الجمعةَ والجماعة عن المسلمين حال الخوف والمرض وما كان في معناهما، ونهى عن مخالطة المريض للصحيح واجتماعه به في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ» متفق عليه. وهذا كله متسق مع أحكام الشريعة في إرساء مبادئ الحجر الصحي؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الطاعون: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» متفقٌ عليه.
وأوضحت أن الضابط في ذلك أنه: كلما زادت احتمالية الإصابة بالعدوى أو حمل الفيروس؛ تأكد وجوب الأخذ بوسائل الوقاية، وقوي جانب العزل والحجر الصحي؛ إذ إن تحريم الإيذاء شامل لكل أنواعه ودرجاته، ولو كان إيذاءً محتملًا لا متحققًا؛ فما قارب الشيء أخذ حكمه، وحريم الحرام حرام؛ ولذلك نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن الإشارة إلى الآخرين بما يحتمل منه وقوع الإيذاء بهم ولو على سبيل المزاح أو اللعب؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ» رواه مسلم.
وقالت الدار: "لذا، فإنه يتوجه الأخذ باستمرار تعليق الجمع والجماعات في أماكن العزل والحجر الصحي، إذا ارتأت الجهات الصحية المختصة ذلك؛ لما في ذلك من الْتِماس سلامة أفرادها، وسلامة من هم خارجها".
وأضافت دار الإفتاء أنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار ضعفُ مناعة كبار السن أمام الإصابة بالعدوى وتأثر ذوي الأمراض المزمنة بالوباء؛ حسبما قرره الأطباء المختصون؛ فقد أفادت منظمة الصحة العالمية أن كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة (الربو، السُّكَّري، أمراض القلب) هم أشد ضعفًا وأكثر عرضة لعدوى هذا الفيروس من غيرهم؛ نظرًا لما قد يعانونه من ضعف المناعة؛ فردود الأفعال المناعية تنخفض تدريجيًّا مع التقدم في العمر.
ولفتت النظر إلى أنه إذا خاف كبار السن وذوو الأمراض المزمنة من الاختلاط بغيرهم، ورأى الأطباء المختصون مظنة الأذى في ذلك، أو غلب على ظنهم هم ذلك، فإنه تسقط في حقهم صلاة الجمعة؛ فيصلونها في البيوت ظهرًا، ولا يحرمون مع ذلك أجرها وثوابها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا، فَشَغَلَهُ عَنْهُ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ، كُتِبَ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ» أخرجه أبو داود في "السنن"، وصححه ابن حبان والحاكم.
وأكدت دار الإفتاء في بيانها أن الشرع وإن وصى بتعويد الأطفال على حضور الصلاة، إلا أن الحالات الاستثنائية لها حكمها؛ فيراعى عدم الإفراط في إحضار الصغار وغير المكلفين وأصحاب الأعذار وذوي الاحتياجات الخاصة بدنيًّا وعقليًّا؛ لما يتطلبه الاجتماع في ظروف الوباء من حذر وإجراءات قد يتهاونون في الالتزام بها، ومن القواعد التي أرساها النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من خلال سيرته العطرة: أنه كلما ازداد ضعف الإنسان تأكد وجوب رعايته والحفاظ عليه؛ ولذلك أكد على مزيد رعاية الأطفال والضعفة، فكان يوصي بتجنيبهم مواطن التزاحم، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أنا ممن قَدَّمَ النبيُّ صلى الله عليه آله وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله» متفق عليه، والزمان الآن زمان اضطرار لا زمان اختيار، والوقت وقت حذر لا وقت توسعة.
وأوضحت الدار أنه إذا أقيمت الجمع والجماعات فيجب على من حضرها الالتزام التام بما قررته السلطات المختصة والجهات الصحية من أساليب الوقاية وإجراءات الحماية، ومنها:
التباعد بين المصلين من كل اتجاه: بحيث يترك المصلي مسافة بينه وبين من يجاوره، وبينه وبين من يصلي أمامه وخلفه؛ تحرُّزًا من التلاصق المسبب لانتقال العدوى، فيراعى الاقتصار في الاجتماع على ما وجب، لا العمل بالمستحب، وإذا كان المستحب في الجماعات في أوقات الاعتياد: تكثير السواد، والتلاحم والتقارب وسد الفرج بين المصلين، فإن المستحب في هذا الزمان: تقليل التجمعات، والتباعد بين المصلين قدر المستطاع وتوسيع المسافات.وأكدت أن الصلاة على هذا النحو صحيحة شرعًا، بل لا يخرج ذلك عن الأمر الشرعي بتسوية الصفوف؛ إذ المقصود بذلك أصالة: اعتدال المصلين على سمت واحد، لا يتقدم بعضهم على بعض في الصف، وقد نص الفقهاء على التسمُّح في الفرجة اليسيرة بين المصلين في الأحوال المعتادة، وأنها لا تمنع اتحاد الصف عُرفًا، فكيف بالظروف الاستثنائية التي يصبح فيها التباعد مطلوبًا ومتحتمًا.
وتابعت الدار موضحة أن ارتداء الكمامة إذا لبسها المصلي في صلاته، فإن ذلك لا يدخل في النهي الشرعي عن تغطية الفم والأنف في الصلاة؛ لأن محل النهي الأحوال المعتادة، أما ظرف الوباء فهو عذرٌ مبيح، وحالة مستثناة من الكراهة؛ كالتثاؤب المأمور بتغطية الفم حال طروِّه للمصلي، وكالحر والبرد ونحوهما من الأعذار العارضة، والتي أجاز فيها الفقهاء تغطية الوجه أو بعضه في الصلاة.
وأوصت الدار كذلك في بيانها باصطحاب كل مصلٍّ السجَّادة الخاصة به؛ لأن توالي السجود في موضع واحد من أكثر من شخص يكون عرضة لانتقال العدوى، وكذلك ترك المصافحة عقب الصلاة، وترك التلامس بين المصلين، ويكتفي المُصلي حينئذٍ بالتحيَّة بالقول؛ وهو القدر المأمور به شرعًا لتحقق معنى السلام وإفشائه بين العالمين.
وحثت دار الإفتاء أيضًا على ضرورة التعقيم بالمنظفات والمطهرات كالكحول ونحوه، مؤكدة أن ذلك جائز شرعًا، وهو ليس خمرًا ولا نجسًا.
وأوضحت أن الجهات المختصة بتنظيم ذلك مخولة شرعًا وقانونًا باستيفاء إجراءات السلامة، والتأكد من استكمال وسائل الوقاية، ومراقبة اتباع التعليمات التي تصدرها الدولة بهذا الصدد؛ كالدخول بنظام، والتأكد من تطبيق كل مصلٍّ للاحتياطات، وأخذه بوسائل الوقاية المطلوبة، ويمكنها أن تقوم بتحديد أماكن المصلين لتحقيق التباعد الكافي، ويحق لها استبعاد من لم يلتزم بذلك دون حرج شرعي عليها؛ حفاظًا على أرواح الناس، وحذرًا من انتشار الوباء.
وأضافت أنه يرتفع الحرج عن كل من يخاف على نفسه من الاختلاط بالآخرين إذا غلب على ظنه عدم تنفيذ الإجراءات الوقائية الكاملة بالصورة التي تضمن سلامته؛ إذ إن سلامة الإنسان في هذه الحالة ليست فقط مرهونة على أخذه وحده بأساليب الوقاية، بل مرتبطة أيضًا بمن سيخالطهم ويتعامل معهم، ومع تفاوت طباع البشر والاختلاف في ثقافة التعامل مع الوباء، وفي حرصهم على الالتزام بوسائل الوقاية واستكمال الإجراءات، ومع توقع تهاون البعض فيها، أو حصول التدافع غير المقصود، مع ما قد يستدعيه حضور الصلاة من المرور بالأسواق أو ركوب المواصلات العامة؛ مما قد يصعب معه الحرص على التباعد، فإنه يجوز لمن خاف على نفسه العدوى، أو غلب على ظنه عدم استطاعته أو غيره التزام إجراءات السلامة بحذافيرها، أن يتخلف عن الجمع والجماعات، والخوف من ذلك عذر مقبول في سقوط فرض الجمعة؛ لأن الضرر المحتمل هنا متعدٍّ لا قاصر؛ فالمَظِنَّة فيه تُنَزَّل منزلةَ المئنة، وعليه حينئذٍ أن يصليها في البيت ظهرًا.
وقالت الدار: "أما في كل الأحوال فيجب التزام التعليمات الرسمية والإجراءات الوقائية وقرارات السلطات، والحرص على ارتداء الكمامة في أماكن التجمعات، والاحتراز من العدوى بكافة الوسائل والإجراءات، حفاظًا على نفوس الناس وحدًّا من انتشار الوباء؛ فالله تعالى يقول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71]، ووجوب ذلك آتٍ من أن الجهات المسئولة وأهل الاختصاص هم أهل الذكر الذين تجب استشارتهم في هذا الشأن؛ كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وإنما أُمِرَ الناسُ بسؤال أهل الذكر ليطاعوا؛ فللمطيع ثواب طاعته، وعلى المخالف إثم تهاونه وتبعة مخالفته، عليه وعلى غيره؛ لتعديه بذلك على المصلحة العامة التي هي مقدمة شرعًا على المصلحة الخاصة، ولتسببه بقصد أو من دون قصد في إيذاء النفوس البشرية التي أمر الشرع بإحيائها، فإن الأمر متعلق بمقصد كلي أساسي هو الحفاظ على النفوس، والله سبحانه يقول: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، ويقول سبحانه: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].