شيخ الأزهر: وثيقة الأخوة الإنسانية دعوة لنشر ثقافة السلام وتحقيق الرفاهية للبشرية
قال فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب، اليوم الاثنين، إن وثيقة الأخوة الإنسانية تتضمن دعوة لنشر ثقافة السلام واحترام الغريب وتحقيق الرفاهية للبشرية جمعاء بديلا من ثقافة الكراهية والظلم والعنف والدماء.
وقال الطيب في كلمته خلال مؤتمر الأخوة الإنسانية بالإمارات إن وثيقة الأخوة الإنسانية تطالب قادة العالم وصناع السياسات ومن بأيديهم مصائر الشعوب وموازين القوة العسكرية والاقتصادية، بالتدخل الفوري لوقف نزيف الدماء وإزهاق الأرواح البريئة ووضع نهاية فورية لما تشهده من صراعات وفتن وحروب عبثية أوشكت أن تعود بنا إلى تراجع حضاري بائس ينذر باندلاع حرب عالمية ثالثة.
وأضاف "أنتمي إلى جيل يمكن أن يسمى بجيل الحروب بكل ما تحمله هذه الكلمة من خوف ورعب ومعاناة، فلا زلت أذكر حديث الناس عقب الحرب العالمية الثانية عن أهوال الحرب وما خلفته من دمار وخراب، وما كدت أبلغ العاشرة من عمري حتى داهمتنا حرب العدوان الثلاثي في أكتوبر 1956، ورأيت بعيني قصف الطائرات لمطار مدينتي مدينة الأقصر، وكيف عشنا ليال في ظلام دامس لا يغمض لنا فيها جفن حتى الصباح وكيف كنا نهرع إلى المغارات لنحتمي بها في جنح الظلام ولا تزال الذاكرة تختزن من هذه الذكريات الأليمة ما يعيدها جزعا كان لم يمر عليها أكثر من 60 عاما".
وأعرب شيخ الأزهر عن شكره لدولة الإمارات العربية المتحدة، قيادة وشعبا، لاستضافة هذا الحدث التاريخي الذي يجمع قادة الأديان وعلمائها ورجال الكنائس ورجال السياسة الفكر والأدب والإعلام، مؤكدا أنه يتضح جليا من هذا الاجتماع أنه ليس صحيحا ما يقال أن الأديان هي بريد الحروب وسببها الرئيسي وأن التاريخ شاهد على ذلك.
وقال الإمام الأكبر الدكتور أحـمــد الطــيب شــيخ الأزهــــر رئيس مجلس حكماء المسلمين إننا نواجه الآن موجة جديدة من حرب خبيثة تُسمَّى "الإرهاب" بدأت في التسعينات، ثم استفحل أمرها بعد ذلك حتى أصبحت اليوم تقض مضاجع العالَم شرقًا وغربًا.
وأضاف الطيب، في كلمته خلال اللِّقاء العالَمي للأُخــــوَّةِ الإِنْسَــــانيَّة في أبو ظبي، "كان الأمل أن تطُل علينا الألفية الثالثة، وقد انحسرت موجات العنف والإرهاب وقتلِ الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، ولكن خاب الأمل مرة ثالثة حين دهمتنا حادثة تفجيرِ برجي التجارة في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر من مطلع القرن الحادي والعشرين، والتي دفع الإسلام والمسلمون ثمنها غاليًا، وأُخذ فيها مليار ونصف المليار مسلم بجريرة أفراد لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليدين".
وأشار إلى أن هذه الحادثة استغلت استغلالًا سلبيًا في إغراء «الإعلام» الدولي بإظهار الإسلام في صورة الدين المتعطش لسـفك الدِّماء، وتصوير المسلمين في صورة برابرة متوحشين اصبحوا خطرًا داهمًا على الحضارات والمجتمعات المتحضرة، وقد نجح هذا الإعلام في بعث مشاعر الكراهية والخوف في نفوس الغربيين من الإسلام والمسلمين وسيطرت عليهم حالة من الرُّعب ليس من الإرهابيين فقط، بل من كل ما هو إسلامي جُملةً وتفصيلًا.
وأضاف أنَّ «وثيقةَ الأُخوَّة» التي نحتفل بإطلاقها اليوم من هذه الأرض الطَّيِّبة وُلِدَت على مائدة كريمة كنت فيها ضيفًا على أخي وصديقي العزيز (بابا الفاتيكان) فرنسيس بمنزله العامر، حين أَلقى بها أحد الشَّباب الحاضرين على هذه المائدة المباركة، ولَقيَتْ ترحيبًا واستحسانًا كريمًا من قداسته، ودَعمًا وتأييدًا مِنِّي، وذلك بعد حوارات عِدَّة تأمَّلنا فيها أوضاع العالَم وأحواله، ومآسي القتلى والفقراء والبؤساء والأرامل واليتامى والمظلومين والخائفين، والفارِّين من ديارهم وأوطانهم وأهليهم، وما الذي يُمكن أن تُقدِّمه الأديان الإلهيَّة كطوق نجاة لهؤلاء التعساء، وما أدهشني هو أن هموم قداسته وهمومي كانت مُتطابقة أشد التطابق وأتمه وأكمله، وأن كل منّا استشعر حرمة المسؤولية التي سيحاسبنا الله عليها في الدَّار الآخرة، وكان صديقي العزيز رحيمًا يتألم لمآسي الناس كل الناس، بلا تفرقة ولا تمييز ولا تحـفظ.
وأكد شيخ الأزهر أن الأديان الإلهيَّة، بريئة كل البراءة من الحركات والجماعات المسلَّحة التي تُسمَّى حديثًا بـ «الإرهاب»، كائنًا ما كان دينها أو عقيدتها أو فكرها، أو ضحاياها، أو الأرض التي تُمارِس عليها جرائمَها المنكرة، فهؤلاء قتلة وسفاكون للدِّماء، ومعتدون على الله ورسالاته، وأن على المسؤولين شرقًا وغربًا أن يقوموا بواجبهم في تعقُّب هؤلاء المعتدين والتصدي لهم بكل قوة، وحماية أرواح الناس وعقائدهم ودور عباداتهم من جرائمهم.
وقال إن الأديان أجمعت على تحريم الدِّماء، وأن الله حرَّم قتل النفس في جميع رسالاته الإلهية، مشددا على أنه ليس صحيحًا ما يُقال من أن الأديان هي بريد الحروب وسببها الرئيسي، وأن التاريخ شاهد على ذلك، مِمَّا برَّر ثورة الحضارة المعاصرة على الدِّين وأخلاقِه، وإبعاده عن التدخل في شؤون المجتمعات، بعدما سرت هذه الفرية - سريان النار في الهشيم - في وعي الناس والشباب، وبخاصةٍ في الغرب، وكانت من وراء انتشار دعوات الإلحاد والفلسفات الماديَّة ومذاهب الفوضى والعدميَّة والحرية بلا سقف، وإحلال العلم التجريبي محل «الدِّين»، ورُغم ذلك، وبعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على الثورة على الله وعلى الأديان الإلهية جاءت المحصلة كارثية بكل المقاييس، تمثَّلت في مأساوية الإنسان المعاصر التي لا ينكرها إلَّا مكابر.
وأكد أن أوَّل أسباب أزمة العالَم المُعاصر اليوم إنما يعود إلى غياب الضمير الإنساني وغياب الأخلاق الدِّينيَّة، وتَحكُّم النزعات والشهوات الماديَّة والإلحاديَّة والفلسفات العقيمة البائسة التي ألَّهت الإنسان، وسخرت من الله، ومن المؤمنين به، واستهزأت بالقيم العليا المتسامية التي هي الضَّابط الأوحد لكبح جماح الإنسان وترويض «الذئب» المستكن بين جوانحه.
وأضاف أن الحروب التي انطلقت باسم «الأديان»، وقتلت الناس تحت لافتاتها، لا تُسأل عنها الأديان، وإنما يُسأل عنها هذا النوع من السياسات الطائشة التي دأبت على استغلال بعض رجال الأديان وتوريطهم في أغراضٍ لا يعرفها الدِّين ولا يحترمها، مشيرا إلى أن الانحراف الموظَّف في فهم النصوص ليس قاصرًا على نصوص الأديان واستغلالها في العدوان على الناس، بل كثيرًا ما يحـدث مثله في أسواق السياسة، حين تُقرأ نصوص المواثيق الدولية المتكفلة بحفظ السلام العالمي قراءة خاصَّة تبرر شنَّ الحروب على دول آمنة، وتدميرها على رؤوس شعوبها، ولا مانع، بعد أن تقضي هذه السياسات شهواتها العدوانية البشعة، من الاعتذار للثكالى واليتامى والأرامل بأنها أخطأت الحساب والتقدير، والأمثلة على ذلك واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
وقال شيخ الأزهر إن وثيقـة "الأخوة الإنسانية" تنادى بوقـف اسـتخدام الأديان، والمذاهب، في تأجيج الكراهية والعنف والتعصُّب الأعمى، والكفِّ عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش، وذكَّرنا العالَم كله بأن الله لم يخلق الناس ليُقْتَلوا أو يُعذَّبوا أو يُضيَّق عليهم في حياتهم ومعاشهم، والله– عز وجل - في غنى عمَّن يدعو إليه بإزهاق الأرواح أو يُرهب الآخرين باسمه.
ولفت إلى أن هذه المبادرات الضرورية والتحركات الطيبة نحو تحقيق الأخوة الإنسانية في منطقتنا العربية سوف تؤدي ثمارها، وقد بدأت، بحمد الله، بقوة في مصر المحروسة، حيث افتتح قبل عدة أيام أول وأكبر مسجد وكنيسة متجاورين، في العاصمة الإدارية الجديدة، في خطوة تاريخية، نحو تعزيز التسامح وترسيخ الأخوة بين الأديان، وبمبادرة رائدة من الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية.
وطالب الطيب المسلمين في الشرق بأن يستمروا في احتضان أخواتهم من المواطنين المسيحيين في كل مكان؛ فهم شركاؤنا في الوطن، وإخوتنا الذين يُذكِّرنا قرآننا الكريم بأنَّهم أقرب الناس مـودَّة إلينا، موضحا أن المسيحيين قلوبهم مملوءة خيرًا ورأفة ورحمة، والله تعالى هو الذي جعل في قلوبهم هذه الخصال الحميدة.
وقال: "يجب علينا نحن المسلمين ألا ننسى أنَّ المسيحيَّةَ احتضنت الإسلام، حين كان دينا وليدا، وحمته من طغيان الوثنية والشِّرك، التي كانت تتطلع إلى اغتياله في مهده".
وخاطب المسيحيِّين في الشرق، قائلا: "أنتم جزء من هذه الأُمَّة، وأنتم مواطنون، ولستم أقليَّة، وأرجوكم أن تتخلصوا من ثقافة مصطلح الأقليَّة الكريه، فأنتم مواطنون كاملو الحقوق والواجبات، واعلموا أن وحدتنا هى الصخرة الوحيدة التي تتحطم عليها المؤامرات التي لا تفرق بين مسيحي ومسلم.كما طالب الطيب المواطنين المسلمين في الغرب بأن يندمجوا في مجتمعاتهم اندماجًا إيجابيًّا، يحافظون فيه على هويتهم الدِّينيَّة كما يحافظون على احترام قوانين هذه المجتمعات، فأمن هذه المجتمعات مسؤوليَّة شرعيَّة، وأمانة دينيَّة في رقابهم يُسألون عنها أمام الله تعالى.
وخاطب شباب العالَم في الغرب والشرق: "المستقبل يبتسم لكم، وعليكم أن تتسلحوا بالأخلاق وبالعلم والمعرفة، وعليكم أن تجعلوا من هذه الوثيقة (الأخوة الإنسانية) دستور مبادئ لحياتكم، اجعلوا منها ضمانًا لمستقبل خال من الصراع والآلام، اجعلوا منها ميثاقًا بانيًا للخير هادمًا للشر".
وأعرب شيخ الأزهر عن الشُّكْرِ للشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي على رعايتِه لهذه المبادرةِ التاريخيَّةِ، واحتضانه "وثيقة الأخوَّة الإنسانيَّة"، متمنيا أن يكونَ ما بعدها هو إقرارِ السَّلام بين الشعوب، وإيقاظ مشاعر المحبَّة والاحتِرام المتبادَل بين الغربِ والشَّرق وبين الشَّمالِ والجنوب.