في ذكرى الثورة.. انتصار جديد في محراب العدالة

أسمى عمل صحفي يمكن أن يقوم به أي محرر هو إعداد تحقيقٌ استقصائيّ، وقد يشترك فيه عدد من الزملاء، ويستمر أمد تنفيذه إلى عام أو يزيد أحيانًا، ويغوص فيه معد التحقيق في أعماق الموضوع قيد الاستقصاء في محاولة منه لاستكشاف تفاصيل جديدة، والإجابة على فرضيات هو من وضعها.

يحظى هذا التحقيق بمتابعة واهتمام فئة معينة من الجمهور يستهدفها الصحفيّ، أو الّذين يعنيهم الأمر، ويخرج بنتائج لم يسبقه له أحد، وتحقق الهدف الذي سعى له.

وها نحن بصدد الحديث عن أكبر وأهم تحقيق استقصائي شهدته مصر والمنطقة العربية، في التاريخ دون مبالغة، وفي وقت وجيز لم تستمر مدة العمل عليه أكثر من بضعة أيّام، وكان جمهوره المستهدف عشرات إن لم يكن مئات الملايين من داخل مصر وخارجها، الذين شغلهم الموضوع ووضع كل منهم تصور وافتراض، أجابت عليه- مرافعة النيابة العامة في محاكمة قاتل نيرة أشرف طالبة المنصورة- في جلسة المحاكمة يوم الثلاثاء الماضي.

لمدة 87 دقيقة و50 ثانية، استمعنا واستمتعنا بلسان قضائي فصيح، لمرافعة النيابة في القضية التي هزت الرأي العام المصريّ، ونالت تعاطفًا كبيرًا، فقد أدمت القلوب في مشهد يأباه العقول ورفضت العيون تصديقه لبشاعته التي لا تليق ببني البشر.

كنّا أمام مدير نيابة مفوه، صاحب حضور طاغٍ، يجيد فن الإلقاء، ويحسن اختيار الكلمات ويبدع في لغة الجسد ويبهرنا في مخارج الحروف ونطق الكلمات، ونتج عن هذه المرافعة يقين لدى من ساورهم الشكّ، بعدما سمعوا كلام القاتل أمام هيئة المحكمة، وتيقنوا من كذبه وافترائه على من فارقت الدنيا بسبب أنانيته الجامحة.

سعى الجاني في تشويه سمعة الفتاة، وراح ينال من شرفها ويقول ما ليس فيها، وكأنه يغتالها للمرة الثانية بسهام كلامه المسموم، أمام الرأي العام في جلسة نقلتها وسائل الإعلام المختلفة بالصوت والصورة، ولكن مرافعة النيابة دحضت ادعاءات الجاني لينظر في الأرض، مقرًا بكذبه الذي استوحاه خبراء لغة الجسد من تنكيس رأسه.

بدأت أحداث المرافعة من الأيّام الأولى للجاني والمجني عليها داخل أسوار الحرم الجامعي بالمنصورة، وتطرقت إلى كل كبيرة وصغيرة ارتبطت بالطرفين، بداية من التعامل الذي جمعهما، والّذي لم يرق عن الزمالة، من وجهة نظر الفتاة، ولكن المتهم صورها بعقله الباطن أنها علاقة حب وإعجاب من طرف واحد.

وتعمقت النيابة في تحرياتها وتناولت سلوك الطالب مع زملائه، وأساتذته، وتطوعه في جمع الأبحاث مستغلا ثقة أعضاء هيئة التدريس فيه، ليحاول من خلالها صنع علاقات دنيئة مع زميلاته.

فقد أجاب المستشار بدر مروان في مرافعته خلال جلسة المحاكمة عن كل الغموض الذي اكتنف القضية وأحاط بها، لا سيما القوى العقلية للجاني ودوافعه وعلاقته بالضحية، كما رد على كل التساؤلات التي حامت في ملايين العقول، وفند كل حرف نطق به المتهم، وشرّح أقواله واعترافاته التي قالها خلال التحقيق معه، أو حتى أمام هيئة المحكمة خلال أولى الجلسات.

فقد أكدت المرافعة أن ما كان يعتبره قلة من المصريين سببا للتعاطف مع المتهم، هو دليل إدانة لا يختلف عليه اثنين، حيث كون المتهم شاب متفوق، وغير متعاطي للمخدرات، وملتزم في دراسته، فإن هذا يعني وعيه وإدراكه لكل ما يقوم به.

المنطقية التي اتسم بها بيان النيابة العامّة، أكسبها المصداقية لدى جموع المصريين، وأعاد للضحية كرامتها التي حاول القاتل النيل منها، وخلقت 100 مليون مترافع عمن سكنت القبور قبل أن تهنأ بشبابها، وعزز ثقة المصريين في قضاء مصر الشامخ سندان العدالة وحامي حقوق شعبنا الأبي الأصيل.

ويعد هذا البيان الذي شاهده عشرات الملايين في غضون ساعات قليلة، بمثابة محاضرة علمية، نستقي منها المعلومات والمصطلحات، ونتعلم كيف ترص الكلمات إلى جوار بعضها لتعبر عن المعنى الذي نقصده بدقة وانضباط، هذه المرافعة تكتب بماء الذهب وتدرس للأجيال المقبلة.

شعور الارتياح والرضا، الذي شعر به كل المصريون يعد إنجازًا جديدًا تحقق في الذكرى التاسعة لثورة 30 يوليو، والتي كان من أهم إنجازاتها العدالة الناجزة واستقلال القضاء الذي تحقق بفعل ثورة الشعب العظيمة.

ناجي أبومغنم يكتب: في التعادل السلامة