خطبة العيد في المسجد الحرام: الابتلاء يبين من يعبد ربه
أدى المسلمون صلاة عيد الفطر المبارك في المسجد الحرام والمسجد النبوي، وفقاً للأعداد والضوابط المتبعة في الصلوات الأخرى، والإجراءات الصحية اللازمة لمواجهة فيروس كورونا.
وأم المصلين في المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، الذي قال خلال الخطبة وفقا لوكالة واس السعودية « معاشر المسلمين : عيدكم مبارك ، وتقبل الله منا ومنكم الصيام ، والقيام ، وسائر الطاعات ، هذا يوم من أيام الله المباركة ، إنه عيدنا أهل الإسلام، وسمي عيدا لكثرة عوائد الله تعالى على عباده ، بالبر ، والإحسان ، والإنعام ، توالت نفحات ربنا في أيام دهرنا ، فعم الوجود بره ، ولطفه ، ورحمته ، وغفرانه ، والعسر بفضل الله لا يدوم ، والشدة لا تطول ، والليل يعقبه الصباح ، والصبر عبادة ، والرضا إيمان ، والدعاء يرفع الهموم، الله اكبر ، فهو يستر العيوب ، والله اكبر ، وهو يدفع الكروب».
وتابع «خلق الإنسان هلوعا ، وهو أكثر شيء جدلاً ، وقد أتي عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا ، وهو على نفسه بصيرة، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله : ' الناس ما داموا في عافيه فهم مستورون ، فإذا نزل البلاء صاروا إلى حقائقهم فصار المؤمن إلى إيمانه والمنافق إلى نفاقه، ) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ».
وأضاف «في حال الابتلاء يتبين من يعبد ربه ، ومن يعبد هواه في الابتلاء تمايز الصفوف بين أهل الإيمان وأهل النفاق، الله اكبر ، أولى من حُمد ، والله أكبر ، أحق من شُكر ، والحمد لله ، أرحم من قصد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد، يقال ذلك - عباد الله - والعالم تجتاحه هذه الجائحة التي لا تعرف الحدود ، ولا تستأذن في الدخول ، ولا تحدها سلطة ، ولا يمنعها مانع، جائحة أظهرت ضعف الإنسان ، وقلة حيلته ، وقصر نظره ، فلا الثراء منها يمنع ، ولا الفقر يوقع فيها، جيش أبرهة هلك بالأبابيل ، والنمرود هلك ببعوضة ، وهذا المخلوق الضعيف أمات مئات المئات ، وحبس الناس ، وقطع الاتصالات، أغلقت الحدود ، وأعلنت الطوارئ ، وتوقفت الرحلات».
وقال الشيخ بن حميد:' كم يجثو على أرض المطارات من الطائرات ، وكم يقف في المحطات من قطارات، مخلوق صغير لم تعجزه الدول الكبرى ، ولم توقفه الأمم العظمى ، يرهبهم العطاس ، ويبعثرهم السعال ، كل يبحث عن النجاة ، مخلوق صغير لا يرى بالعين المجردة ، جاء ليوقظ من غفلة ، وليكشف العجز ، ويبرز الضعف ، وليدل على الواحد القهار القادر الجبار ، ذي العزة والجلال لا إله إلا هو، أوقف العالم ، ولم يقعده ، وشل أركان الدول ، وعثا في الأمم ، ارتعد أمامه الأقوياء ، واضطربت من جرائه الدول ، واهتزت له منصات العالم ، أسمع صرير أقلام الكتاب ، والفلاسفة ، والمحللين ، لا عظيم إلا المهيمن الجبار ، ولا قوي إلا الله الواحد القهار، جائحة اضطربت فيها أحوال دول ، ومجتمعات ، وأسر ، وأفرادٍ وتغيرت فيه برامج ، وأغلقت مدارس ، ومساجد ، وبيع ، وصوامع ، وجامعات ، وأقفلت الحوانيت ، والأسواق ، والملاعب ، وهز اقتصاد العالم ، فعز ذليل ، وذل عزيز ، يرسم معالم الموت ، ويكتب مشاهد الوفاة ، ويعلن مراسم الحداد ، ويلغي مواسم الأفراح، هذه هي الجائحة في حقيقتها ، وابتلاءاتها ، وآثارها، الله أكبر ، تفرد في ملكه بالقوة القاهرة ، ووعد المحسنين بالفوز في الآخرة ، فيابشرى الموعود بما وعد' .
وتابع قائلا : أيها الإخوة : أما دروس هذه الجائحة وعبرها ، فحدث عن الجائحة ولا حرج، من هذه الدروس - عباد الله - : درس الابتلاء ، فالبلاء مع الصبر يقوي القلب ، ويمحو الذنب ، ويقطع العُجْب ، ويُذْهِب الكِبّر ، ويذيب الغفلة ، ويحيي الذكر ، ويستجلب دعاء الصالحين ، ويوقظ من الركون إلى الدنيا ، ويحصِّل رقة القلب ، والاستسلام للواحد القهار .
وبين أن في الابتلاء يراجع العبد علاقته بربه ، وصدقَه في الالتجاء إليه وحده ، وحسن توكله عليه ، وقطعَ كل أسباب التعلق بغيره، وفي الحديث: ' لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله حتى يلقى الله ، وما عليه خطيئة ' ، رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح ، ويقول الحافظ بن القيم رحمه الله : ' فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن ، والابتلاء لطغوا ، وبغوا ، وعتوا '، الله أكبر كبيرا كما أمر ، والله أكبر إرغاما لمن جحد به وكفر ، والحمد لله ما اتصلت عينه بنظر ، وأذن بخبر .
وأكد الدكتور صالح بن حميد أن ومن دروس هذه النازلة : التبتل في العبادة ، وإحسان الوقوف بين يدي الله ، فقد كان الإمام مسروق بن الأجدع التابعي الجليل - رحمه الله - يمكث في بيته أيام الطاعون ويقول :' أيام تشاغل فأحب أن أخلو للعبادة ' ، وأصدق من ذلك وأبلغ قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : ' العبادة في الهرج كهجرة إليّ'.
وقال «يا عبدالله هاجر إلى الله وإلى رسوله بقلبك وعبادتك ، سبح بحمد ربك ، وَصَلِّ ، وتصدق ، وصم ، واعمل صالحا ، والزم بيتك ، وعليك بخاصة نفسك ، تحفظ نفسك ، وتحفظ غيرك، آيات التخويف إذا تعامل معها العبد التعامل الشرعي عظم أجره ، واطمأن قلبه ، وزاد إيمانه ، وعظم ثباته، يقول النعمان بن بشير رضي الله عنه : ' إن الهلكة كل الهلكة لمن يعمل بالسيئات وقت البلاء ' .
وواصل أيها المسلمون : ومن دروس هذه الجائحة : التباعد الاجتماعي، هذا التباعد ، وهو تقارب ، محطة هادئة جميلة : الحمد لله : اجتماع مختصر مع الأحبة ، مع الآباء ، والأمهات ، والأزواج ، والأولاد ، والإخوة ، والأخوات ، لم تشردوا من الأوطان ، ولم تسكنوا الخيام ، ولم ينقص الطعام ، تملكون الصحة والعافية ، واجتماع شمل الأسرة، ترممت العلاقات البشرية الاجتماعية التي خلخلها الانشغال برغبات النفس في رحلات وحفلات ، واستسلام للمشتهيات والرغبات، والمشتريات ، بل أغلقت المتاجر لتعود العائلة إلى بيتها ، وتقضي كل يومها في كنفه ودفئه ، فصارت تأكل في البيت ، وتتعلم في البيت ، وتصلي في البيت ، فتوثقت العلاقة ، وبرزت الحميمية ، تعلموا كيف يتسوقون عن بعد ، وتعلموا عن بعد ، بل ويترافعون إلى المحاكم عن بعد ، وينجزون معاملاتهم العامةَ والخاصةَ عن بعد ، ويتسلون عن بعد ، بل يصدرون قراراتهم الكبرى عن بعد ، وما كان يحتاج أياماً وأسابيع صار يقضى في ساعات ودقائق، تعلمت الأسرة كيف توفر الكثير من مدخراتها ومدخولاتها ، اعتمدت على البيت ، وباشرت العمل بنفسها ، أقامت مناسباتها من غير قصور ولا قاعات ، ومن غير هدر للأموال والأوقات ، في مراجعة لسياسيات الإنفاق الأسري ، وعادات الإسراف ، وطرائق التواصل الاجتماعي ، والتكافل الإيجابي ، والموازنة بين الضروريات ، والحاجيات ، والكماليات، وقبل ذلك وبعده التفطن العظيم لنعمة الأمن ، والصحة ، والفراغ ، وحرية الحركة ، والتنقل ، والاجتماع ، وإدراك العقلاء أن الاقتصار على أساسيات الحياة والاكتفاء الذاتي من أعظم أسباب التغلب على كثير من نوازل الحياة وتقلباتها وهامشياتها .
وداعا شهبندر التجار .. الشيخ صالح كامل يوارى الثرى في مقبرة المعلاة بعد صلاة الجنازة بالمسجد الحرام
كيفية أداء صلاة العيد فى المنزل