خطيب المسجد الحرام: المجتمعات تعيش إدمان شبكات التواصل الاجتماعي من أجل شهوة الشهرة وسطوة الظهور
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس المسلمين بتقوى الله وأن يعْلَمُوا أَنَّ التَّقْوَى نُورُ القُلُوبِ إِلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَمِشْكَاتُهَا، وَسَبِيلُ مَحَبَّتِهِ وَمِرْقَاتُهَا، وَبُرْهَانُ رَهْبَتِهِ وَدَلاَلاَتُها، قال تعالى: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾،
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها بالمسجد الحرام : في دنيا الفتن المُدْلهمة، وواقع التحديات المُحْدِقة بالأمة، وفي عالمٍ اعْتَسَفت طرائق الحَقِّ الصُّرَاح فيه أقوال خاطئات، وتصوُّرَات عن الصَّوَاب جَانِحَات، ووسائل ومستجدات وتحولات وأزمات، يجدر بنا أن نقف وقفة جادة، لاستشراف المستقبل ورسم آفاقه، واستنطاق أمدائه وأعماقه، في ضوء عقيدة صافية، وقيم سامية مستقرة في أعماق السُّوَيْدَاء، تنداح بها الروح في ذوائب العلياء، فلقد جاء الإسلام بِعَقِيدَةِ التَّوحِيدِ الخَالِصَةِ؛ كما هي دعوة الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وتلك هي وظيفة المسلم في الحياة: إخلاص العبودية لله وحده لا شريك له، قال سبحانه:﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾.
ولما استبدل بعض الناس في أعقاب الزمن بنور الوحيين سواهما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فأعرض فئام عن منهج النبوة والصحابة والسلف الصالح خير القرون، وابتُلُوا بالفِرَق والاختلافات، والطوائف والانقسامات، يضخمون الهنات، ويتتبعون الهفوات، وينشغلون بالكبوات، فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول، واتبعوا أهواءهم : ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾.
وأضاف : لقد حرصت الشريعة الغراء على تحقيق مجتمع متماسك بعيدًا عن إثارة الفتن والشبهات، وأمرنا رب العالمين أن نعتصم بحبله المتين، قال سبحانه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾، والسلف -رضي الله عنهم- كانوا بعيدين كل البعد عن مسالك الفرقة والخلافات والتقسيمات والتصنيفات، ومن سار على دربهم وهُدَاهم، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه.
ولفت الشيخ السديس النظر إلى أن مما يُعكر صفو الإخلاص، ويشق عصا الوحدة دون مناص؛ حب الظهور بين الناس، بل قل إن شئت: شهوة الشهرة وسطوة الظهور، وإن من المؤلم حقًّا أن نرى بعضهم يسعى إليها سعياً حثيثا حتى إنه لا يرى في الدنيا شيئاً غيرها، وربما تخلى عن قِيَمِهِ ومبادئه، أو أخلاقه وعقيدته، من أجل سراب خادع يحسبه الظمآن ماءً، وقد كان سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- يكرهونها بل ويفرون منها، وقد نهى النبي عن لباس الشهرة ورتب عليه الوعيد لمخالفته إجماع المسلمين، يقول سفيان الثوري ~: إياك والشهرة؛ فما أتيتُ أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة، وقال بِشْرُ بن الحارث: مَا اتَّقَى اللهَ مَنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ، وقال ثابت البناني: قال لي محمد بن سيرين: لم يكن يمنعني من مجالستكم إلا خوف الشهرة، وقال إمام أهل السُنَّة أحمد بن حنبل:"أُرِيْدُ أَنْ أَكُوْنَ فِي شِعْبٍ بِمَكَّةَ حَتَّى لاَ أُعرَفَ، مبيناً أن السلف الصالح هكذا مضوا على هذا المنهاج، وكان هذا دِينهم ودَيْدَنهم، فأين هذا من أقوام غلبهم حب الشهرة، خاصة في هذا الزمان الذي عظمت فيه الفتنة بمن يُسمون: مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي؛ فنحن في عصر الثَّوْرَة التِّقَانِيّة المذهلة، التي أسْفرت عن وسائل الاتصال السريعة المُتطوِّرة، فَخوَّلَتِ الإنسان أنْ يَتَواصل مع من شاء في أيِّ مكان من المعمورة، وفي أيّ وقت، في بثٍّ مُبَاشِرٍ مُفَصَّل، يَحْمِل الصَّوت والصُّورَة مَعَا. فينشرون على الناس طعامهم وشرابهم ومجالسهم، ويتعرضون للخصوصيات، ويخترقون أستار الأُسَر والبيوتات...!!! ،
فيا لله كم جنت هذه المسالك على الأمة في عصرنا الحاضر، وأصبح الناس يعقدون المقارنات بين واقعهم الذي يعيشونه وبين ما يرونه على الشاشات، فكثرت المشكلات الأسرية، وشاعت الضغائن والأحقاد، والحسد والغيرة وغيرها من أمراض القلوب والنفوس، في الوقت الذي نرى فيه كثيرًا من أبناء الأمة هَمَّه في لَيْلِهِ ونهاره أن يكون مشهوراً معروفاً، مهما كلفه ذلك، ودون النظر في عواقب الأمور ومآلاتها، فنطقت الرويبضة، وتحدثت الغوغاء والمفاليس في أُطروحات وخصوصيات وتفاهات وغثائيات، وعامة المجتمعات تعيش إدمان مطالعة هذه الشبكات المحمومة والفضاءات المسمومة ، مشيراً إلى أن البعض منهم امتطى لباس الشهرة العاري بالطعن في العقائد والثوابت والأعراض والرموز والقدوات، وهذا من الإفك المبين والكذب الصراح والبهتان العظيم، والتشبع بما لم يعط المرء، ولا عزاء للرعاع والإمّعات .
وأوضح الشيخ السديس أن الشهرة ليست مرادة في ذاتها، فقد تتفق للرجل فإذا صبر على حقها فإنه لا حرج عليه، والخفاء كذلك لا يُراد لذاته، وإنما الذي يُراد أن يراك الله حيث أمرك وأن يفقدك حيث نهاك، وهذه هي تمام المسؤولية التي خلقنا الله من أجلها، وإنَّ ضَيَاع هذه المسؤولِيّة، والتهوين من شأنِها، والحَطِّ مِن قدْرِها، هو البلاء الذريع، والشَّرُّ الخَفِيُّ الشَّنيع، تلكم المسؤولِيَّة الحَقَّة، التي تَسْتشْعِر خَشْيَةَ اللهِ مع كُلِّ قَبْسَةِ قَلَمْ، وهَمْسَةِ فَمْ، فهي حقًّا لمن يستشعر عِظَم المسؤولية وثقل الأمانة مغارم لا مغانم، وتبعات تستوجب صادق الدعوات وإنكار الذات كما كان هدي سلفنا الصالح عليهم من الله سوامق الرحمات.
ووجه إمام وخطيب المسجد الحرام خطابه للمشاهير ممن لهم مكان ومكانة في نفوس الأتباع من خلال الاستكثار من المتابعين والشهرة الإعلامية والتقانية أن يتجافَوْا بِعَزَائمِهم عن المَعَرَّات والإهمال، وان يسْمَوْا بِصِدْقهم وإخْلاصِهم عَن التَّقَاعُسِ والمِطَال، وان يسْتَمْجِدُوا بِهِمَمِهم عظيم المقاصِد والطُّمُوحَاتِ الغَوَالْ، وأن يستثمروا الشهرة بالدعوة إلى الدين الحق وخدمة الأوطان وتنميتها وأمنها، وأن يكونوا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وأن يسخروا شهرتهم في الحفاظ على ثوابت الدين والقيم، والذب عن أعراض المسلمين وبيان الحق ونصرته فالإتقان لَهُ سُطوع، والتَّفَانِي والإبْدَاع له ذُيوع، والإنْتاج والتطوير لِبَهَائِه لُمُوع. ويَا حَبَّذَا ثُمَّ يا حَبَّذَا، مَا يتَطلَّعُه الوَاعون الأخيار مِن أبناء الأمّة مِن ذَوِي الهمم العالية، مِن التَّحَقُّقِ بِهَا وإدْرَاك أبْعَادِها عَلَى أسْمَى وجوهها وحَقائقها التي تُسْلِمُنَا –بِإذن الله- إلى أحْسَن الغايات، وأَبْهَج النّهَايات، ومَا ذلك على الله بعزيز
وأبان فضيلته أنه لا تَتَحقَّقُ أهلية من ذاع صيته، وانتشر في الناس اسمه ورسمه إلا بتحققه المسؤولِيَّة في أجْلَى مَظَاهِرِها، وآرَجِ أزاهِرِها، يُتَوَّجُ ذلك بَمَعَاقِدِ الصدق والرِّفْق والحِلم والحكمة وصالح الأخلاق والقيم، وإلاَّ مَتَى سَارَتْ في رِكَابِ الشِّيَمِ، التي تنِم عَنِ النَّبَاهة البَارِعَة، والرّوح الإسلامِيّة الفَارِعة. وبِقدْر عِظم المَسْؤولِيَّة، ومَوطِن التَّشرِيف والتَّكْلِيف، يعظم قدره، ويعظم في الناس أثره؛ لاسيما في البقاع الشريفة، والأماكن المنيفة، ويا لهناء مَنْ شَرُفَ بالخدمة فيها ونفع قاصديها، حيث تتجلى ضَرُورَة الإخلاص لله واللجأ إليه، واستمداد العون والتوفيق منه سبحانه،.وقال : ألا وإن مِنْ فضل الله وعظيم آلائه وجزيل نعمائه ما مَنَّ به على هذه الأمة مِنْ تمكين الحرمين الشريفين، وما ينعمان به من أمنٍ وأمان وراحة واطمئنان، وما هَيَّأ لهما من قيادة أريبة حكيمة تشرف بخدمتهما ورعايتهما، وتقدم لقاصديهما منظومةً متكاملةً من بديع الخدمات لتحقيق جليل الآمال والطموحات، وتستمر المسيرة المعطاء، مع بداية عامها التاسع في خدمة الإسلام والمسلمين في شتى البقاع ومختلف الأصقاع .