محمود عبد العزيز.. ساحر الفن المصري الذي لا يغيب رغم الرحيل

يظل الفنان الراحل محمود عبد العزيز نجمًا فريدًا في سماء الفن المصري والعربي، أيقونة فنية متجددة، استطاع أن يسحر جمهوره بأدائه المتنوع وقدرته المذهلة على تجسيد الشخصيات المختلفة، من الكوميديا الساخرة والتراجيديا المؤثرة، إلى الأدوار الرومانسية والشخصيات المركبة المعقدة، رحلة طويلة امتدت لعقود، حملت معها إبداعًا حقيقيًا وانتصارات فنية جعلته يخلد في الذاكرة، ويحتل مكانةً خاصةً في قلوب الملايين.

وتحل اليوم الأربعاء 4 يونيو 2025، ذكرى ميلاد الفنان الراحل محمود عبد العزيز الـ 79، وفي السطور التالية نستعرض أهم المحطات في مشواره الفني:

من الإسكندرية إلى عالم الأضواء: بدايات محمود عبد العزيز

وُلد محمود عبد العزيز في 4 يونيو عام 1946، في حي الورديان الشعبي بمدينة الإسكندرية. نشأ وسط أسرة مصرية بسيطة، وتلقى تعليمه في مدارس الحي، حيث بدأت ملامح موهبته الفنية في الظهور مبكراً، لم يكن الفن مجال دراسته الرسمي، بل اختار الالتحاق بكلية الزراعة في جامعة الإسكندرية، لكن هذا لم يثنه عن شغفه بالفن، فالتحق بفريق المسرح الجامعي، وهناك صقل موهبته وصار المسرح متنفسه الإبداعي الأول.

المفارقة الطريفة في حياته أنه أكمل دراسته وحصل على درجة الماجستير في تربية النحل! إلا أن شغفه بالفن ظل الأقوى، فقادته موهبته الفريدة إلى عالم الأضواء والنجومية.

بداية المسيرة الفنية: خطوات شاب سكندري نحو الشهرة

بعد التخرج، لم يطل غياب محمود عبد العزيز عن الفن، إذ سرعان ما جذبه سحر التمثيل إلى خشبة المسرح ثم شاشات التلفزيون.

كانت البداية الحقيقية عام 1973، حينما اختاره المخرج الكبير نور الدمرداش ليشارك في مسلسل 'الدوامة'، الذي ضم عملاقين من نجوم الفن هما محمود ياسين ونيللي.

لفت الأداء القوي للشاب السكندري أنظار الجمهور وصناع السينما، ليبدأ بعدها طريقه الطويل نحو قمة النجومية.

عام 1974، خطف محمود عبد العزيز الأنظار مجدداً في فيلم 'الحفيد'، أحد كلاسيكيات السينما المصرية، مجسداً شخصية الشاب الرومانسي 'جلال'، أما أول بطولة مطلقة له فجاءت سريعاً عام 1975 من خلال فيلم 'حتى آخر العمر'، ليبدأ بعدها مشواراً حافلاً بالأدوار المتنوعة والنجاحات المتواصلة على الشاشة الكبيرة.

محطات مفصلية: من الرومانسية إلى الأدوار المركبة

لم يكن نجاح محمود عبد العزيز مجرد صدفة، بل كان ثمرة موهبة أصيلة وتطور مستمر في اختياراته الفنية. ورغم بداياته في أدوار الشاب الرومانسي الوسيم، رفض الوقوف عند هذا النمط الواحد، منذ مطلع الثمانينات، بدأ مرحلة جديدة من النضج الفني، حيث أظهر قدرة هائلة على التنويع وتقمص الأدوار الصعبة والمعقدة.

في عام 1982، كان فيلم 'العار' بمثابة علامة فارقة، إذ قدم شخصية الطبيب 'عادل' التي أظهرت جانباً مختلفاً من قدراته، وكسرت صورة الشاب الوسيم الرومانسي، لتؤكد أنه قادر على لعب شخصيات مركبة وصعبة.

توالت بعد ذلك أعماله المتميزة، من الأب البسيط في 'العذراء والشعر الأبيض'، إلى المحامي الانتهازي في 'تزوير في أوراق رسمية'، ليثبت أنه ممثل استثنائي لا يقف عند حدود أو تصنيفات.

عام 1985، أبدع في دور الجاسوس المزدوج بفيلم 'إعدام ميت'، ونجح أيضاً في تقديم شخصيات مهمشة في المجتمع مثل 'الصعاليك'، قبل أن يخطف الأضواء في فيلم 'الكيف'، الذي جمع بين الكوميديا والموسيقى وحقق نجاحاً جماهيرياً ساحقاً بأغانيه وحواراته الساخرة التي لا تزال تُردد حتى اليوم.

أدوار جريئة وشخصيات أسطورية

في عام 1987، خاض محمود عبد العزيز تجربة من أكثر تجاربه جرأة وعمقاً، حين شارك في فيلم 'البريء' الذي ناقش موضوعات السلطة والقمع بأسلوب جريء ومؤثر.

وفي الوقت نفسه تقريباً، رسّخ مكانته كأحد أعمدة الدراما العربية من خلال بطولته التاريخية لمسلسل 'رأفت الهجان' بأجزائه الثلاثة (1988-1992)، مجسداً شخصية الجاسوس المصري الذي دخل قلوب الملايين.

لم يكن هذا المسلسل مجرد محطة فنية، بل تحوّل إلى عمل ملحمي خُلّد في الذاكرة العربية، بفضل أداء 'الساحر' الذي نقل الشخصية ببراعة استثنائية.

إبداع متواصل حتى سنواته الأخيرة

مع تقدم السنوات، ظل محمود عبد العزيز وفياً لروح المغامرة الفنية، مقدماً شخصيات مختلفة لا تُنسى. في فيلم 'الكيت كات' (1991)، جسّد شخصية 'الشيخ حسني' الكفيف بعذوبة وإنسانية نادرة، ليبقى هذا الدور واحداً من علامات السينما المصرية.

كما برع في فيلم 'الساحر' (2001) الذي حمل اسمه وعبّر عن سحره الفني الخاص، وفي شخصية 'عبد الملك زرزور' القاسية في 'إبراهيم الأبيض' (2009).

في الدراما التلفزيونية، استمر حضوره القوي في أعمال مثل 'البشاير' (1987)، 'محمود المصري' (2004)، 'باب الخلق' (2012)، و'جبل الحلال' (2014)، وصولاً إلى آخر أدواره في 'راس الغول' (2016)، الذي شهد تقديمه لشخصيتين مختلفتين بكل إتقان وإبداع.

ملحمة "رأفت الهجان": أيقونة درامية خالدة

يُعدّ مسلسل 'رأفت الهجان' واحداً من العلامات البارزة في مسيرة محمود عبد العزيز وفي تاريخ الدراما المصرية والعربية على حد سواء. المسلسل الذي أُنتج على مدار ثلاثة أجزاء بين 1988 و1992، حكى قصة الجاسوس المصري الحقيقي 'رفعت الجمال'، الذي زرعته المخابرات المصرية في قلب إسرائيل لعقود، ونجح في خداع أجهزة الأمن الإسرائيلية وحصد معلومات في غاية الأهمية.

جسد محمود عبد العزيز شخصية 'رأفت الهجان' بموهبة مدهشة، حيث نقل ببراعة تحولات الشخصية من شاب مصري عادي إلى عميل مزدوج يواجه الخطر والمكائد بحنكة وذكاء، جمع الأداء بين التحدي النفسي والعاطفي والوطني، ما جعل 'رأفت الهجان' عملاً ملحمياً يفتخر به كل مصري وعربي.

حقق المسلسل نجاحاً مدوياً، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة المصرية، ورفع محمود عبد العزيز إلى مصاف النجوم الكبار الذين استطاعوا تجسيد الروح الوطنية بأداء خالد، ومع مرور الوقت، بقي 'رأفت الهجان' شاهداً على عبقرية 'الساحر' وقدرته على مزج الدراما بالتاريخ والتشويق.

إرث لا يُنسى في السينما والمسرح والتليفزيون

على مدار مشواره، قدم محمود عبد العزيز ما يقرب من 84 فيلماً سينمائياً، تنوعت بين الرومانسية الساحرة في بداياته، والكوميديا الاجتماعية الساخرة مثل 'الكيف' و'الشقة من حق الزوجة'، والدراما النفسية والاجتماعية مثل 'العار' و'الكيت كات'، والأدوار السياسية الجريئة مثل 'إعدام ميت' و'البريء'، وكذلك الأكشن والإثارة كما في 'إبراهيم الأبيض'، لم يكن ممثلاً عادياً، بل ساحراً يلوّن كل دور بألوانه الخاصة.

في التلفزيون، تجاوزت إبداعاته حدود الشاشة الصغيرة، ليصبح 'رأفت الهجان' رمزاً وطنياً، ويترك بصمة في كل عمل شارك فيه. أما المسرح، فرغم قلة أعماله عليه، لكنه أضاف لرصيده الفني عبر مسرحيات مهمة مثل 'لوليتا' (1974)، و'خشب الورد' (1986)، والمسرحية الكوميدية '727' (1994).

حياته الشخصية: الحب والعائلة

في حياته الخاصة، عاش الفنان محمود عبد العزيز زيجتين شكلتا جزءاً من قصة حياته. زواجه الأول كان من السيدة جيلان زويد 'جيجي'، التي ظلت بعيدة عن الأضواء، وأثمر زواجهما عن ولدين: محمد وكريم، اللذين سارا على درب والدهما في عالم الفن. بعد انفصاله، تزوج من الإعلامية بوسي شلبي عام 1998، لتستمر علاقتهما حتى وفاته، رغم ظهور بعض الخلافات مع أبنائه بعد رحيله.

وداع الساحر وبقاء إرثه

في الثاني عشر من نوفمبر عام 2016، غيّب الموت 'الساحر' محمود عبد العزيز بعد صراع مع المرض. لكن رحيله لم يكن نهاية الحكاية، بل بداية لتخليد إرثه الفني الذي أثرى السينما والتليفزيون والمسرح لعقود طويلة. رحل الجسد، لكن أعماله ما زالت تنبض بالحياة، تذكّرنا دوماً بعبقرية فنان استطاع أن يسحر الجميع، ويثبت أن الفن الحقيقي خالد لا يموت.