الحاجة نبيلة تُعيد بريق الفلكلور المصري بصوت يحمل ذكريات الماضي وروح جملات شيحة

يبقى الغناء الشعبي في مصر أحد أعمدة الهوية الثقافية التي تشكّلت على مدى قرون، إذ مثّل وسيلةً فطرية للتعبير عن الفرح والحزن والحياة اليومية، وجسرًا بين الماضي والحاضر.

وفي قلب هذا المشهد، كانت المرأة المصرية دومًا صاحبة الصوت الأقوى في حفظ الذاكرة الفنية، من خلال أجيالٍ من المطربات اللاتي قدّمن الفلكلور بحسّهن الإنساني العميق، واحتفظن بأصالته رغم تغيّر الأزمنة.

من بين هؤلاء تتصدر الأسماء جمالات شيحة، إحدى أهم رموز الفلكلور المصري، التي غنّت للريف والمدينة والحارة والعرس الشعبي، لتصبح أغانيها وثائق فنية تؤرخ لمشاعر المصريين البسطاء.

كانت جمالات، بصوتها الطالع من قلب الناس، تجسيدًا حيًا لفكرة أن الفن الشعبي هو مرآة المجتمع، وأن الأغنية الشعبية ليست مجرد لحن بل سردية ثقافية توثق نبض الوطن.

ومع تطور المشهد الموسيقي وتبدّل الأذواق، ظنّ البعض أن الفلكلور قد فقد بريقه، لكن الحقيقة أن المرأة المصرية ما زالت الحارس الأمين على ذاكرة الفنون، تواصل إعادة اكتشافه وتقديمه بروح جديدة، وهنا تبرز المطربة نبيلة، التي اختارت أن تكمل هذا الإرث الغنائي بأسلوب يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

تقدّم نبيلة الفلكلور بصوتٍ قوي يحمل روح الحارة المصرية، لكنها في الوقت نفسه تعيد صياغته برؤية فنية معاصرة، تجعل التراث قريبًا من أذن الجيل الجديد.

وهي بذلك تُعيد للأذهان الدور الذي لعبته أصوات مثل شريفة فاضل، محاسن الحلو، وعايدة الشاعر، حين كنّ يحمين روح التراث ويقدمنها بصدق وكرامة فنية.

المرأة والفلكلور.. حارسة الذاكرة الغنائية

لم تكن المرأة المصرية مجرد متلقٍ للفنون الشعبية، بل كانت عبر التاريخ حارسة لها. من أهازيج الحصاد ومواويل الغزل، إلى أغاني الفرح والمواليد، كان الصوت النسائي رمزًا للحياة في الريف المصري.

هذا الصوت، المليء بالشجن والصدق، حفظ الوجدان الجمعي من النسيان، وأبقى التراث حيًّا بين الأجيال.

وفي كل قرية، كانت هناك 'ست' تحمل الموروث وتورّثه، لتصبح الذاكرة الغنائية جزءًا من نسيج المجتمع وتحافظ على هوية الإانية الشعبية الأصيلة.

جمالات شيحة.. بنت الشرقية وصوت المواويل

وُلدت جمالات شيحة عام 1933 بقرية كوم حلين بمحافظة الشرقية، في بيتٍ يعشق الغناء والمواويل. كانت تستمع لوالدها وهو يشدو بالأغاني الريفية فتحفظها بصوتها العذب، وبدأت منذ طفولتها الغناء في الموالد والأفراح.

اكتشفها الفنان الشعبي زكريا الحجاوي أثناء رحلاته للبحث عن الأصوات الأصيلة، فضمها إلى فرقة «الفلاحين للغناء الشعبي» عام 1961، لتبدأ مرحلة جديدة من مسيرتها الفنية.

لم تكن جمالات تعرف القراءة أو الكتابة، لكنها امتلكت ذاكرة قوية حفظت بها مئات المواويل والأغاني.

سافرت إلى اليابان وفرنسا والولايات المتحدة وبلجيكا والأردن وتونس، حاملة معها صوت الريف المصري الأصيل، لتُعرّف العالم على جمال الفلكلور المصري.

ومن أشهر ما قدمت: «على ورق الفل دلعني»، «يا حلو غيرت رأيك فينا»، «أنا شرقاوية»، «وأنا رايحة الحسين»، «اتدلع يا حلو»، «ياما دقت على الراس طبول» وغيرها من الأغاني التي ما زالت تُغنّى حتى اليوم.

الحاجة نبيلة.. صدى التراث في عصر السوشيال ميديا

من نفس المحافظة التي أنجبت جمالات شيحة، تخرج الحاجة نبيلة عبد الغني من قرية سنهوت بمركز منيا القمح بالشرقية، لتثبت أن الفلكلور لا يموت ما دام هناك من يحفظه. سيدة ريفية بسيطة تجاوزت الستين، لكن صوتها لا يزال قويًّا يحمل نغمة الأرض وصدق الريف.

ورثت حب الغناء عن والدتها التي كانت تُحيي مناسبات القرية بالأغاني الشعبية، فكبرت نبيلة وهي تحفظ التراث وتغنيه في الأفراح والموالد. بصوتها الفطري البديع، قدّمت أغاني مثل «البامية شوكتني»، «يا حليله»، «واقفة على الترعة»، «العتبة جزاز»، «يا غزال»، «رمضان اهو جانا»، «ورق التوت»، «يا حنة» وغيرها من أغاني التراث التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة، لتعيد الذاكرة الشعبية إلى الواجهة.

تقول الحاجة نبيلة إنها تغني كل أنواع الأغاني الشعبية والدينية، وإن حلمها أن تُسجل أعمالها بشكل احترافي، وأن تُتاح لها فرصة الغناء أمام جمهور واسع، ليصل صوتها وصوت أبنائها، الذين تعلموا منها الفن والعزف على الكولة، إلى كل بيت مصري.

من جيل إلى جيل.. التراث لا يموت

من جمالات شيحة التي غنت على المسارح العالمية إلى الحاجة نبيلة التي غنت في أفراح القرية ووصل صوتها إلى الإنترنت، تستمر الحكاية. فبين زمنين، تبقى رسالة واحدة: أن الفن الشعبي هو هوية، والمرأة المصرية هي حافظته الأولى.

 

من جمالات شيحة إلى الحاجة نبيلة.. أصوات نسائية تحيي الفلكلور الشعبي