حسن عبد الجليل يكتب: حين غربت الشمس
كانت الشمس في كبد السماء تنذر بالرحيل حين غاصت عيناه إلى ما وراء الأمواج الصاخبة. في حالة استرخاء تامة جلس في كرسي جامد من الخيزران يستقبل نسيم البحر الندي قبل الغروب بجوار قلعة قايتباي؛ أدمن الجلوس بنادي الصيد مع صديق وحيد هو الأقرب إلى قلبه.
لم يكن هينًا عليه إدامة النظر إلى عينين تخشيان الهزيمة أمام جحافل فيّاضة من مشاعره الصادقة دون جدوى؛ أقسم أن يقاتل حتى الرمق الأخير ولا يملك لذلك سبيلا سوى فؤاد محب، وقلم يترجم طلاسمه النابضة إلى حياة مكتوبة.
ضجر الرفيق السكندري من الجنوبي المرهف؛ يراه تائها كمن فُقد في زمان ومكان آخرين ولا يجد مؤنسًا؛ لا اختيارات أمامه سوى أن تحل قوى خارقة أمره المعقد وتعيده إنسانًا طبيعيًا كما كان. هذا ما اعتقده ابن المدينة العتيقة قبل أن يعلم أن في الأمر «تاء تأنيث».
حازم يفتح باب الحديث وهو يربت على كتفه: رحت فين يا صعيدي، جبت آخر البحر والا لسة؟.
حسن بتأوه: بحركم ملوش آخر يا عم حازم.
حازم: مالك يا صاحبي؛ عمري ما شفتك كدة، مش اتفقنا إني هجوزك إسكندرانية قمر؛ لولا ياسمين (يقصد ياسمين صبري) اتجوزت قبل ما أعرف كنت خطبتهالك (يقولها ثم يضحك ليخرج بصاحبنا من جو الكآبة).
حسن مبتسمًا بطريقة آلية: ولا ياسمين ولا سمية الخشاب يا صديقي؛ أنا طبّيت وخلاص وكنت بشتكيها للبحر من شوية لما كنت ساكت.
حازم مستغربًا: مجبتليش سيرة يعني؟
حسن: قلت آجي إسكندرية أغير جو وأشكي للبحر همومي ونتقابل وهتعرف كل حاجة.
حازم: مين اللي قلبت كيانك بالشكل ده؟
حسن: هي الحُسن على هيئة بشر.
حازم: لا ده انت عاوز تركيز بقى (ثم ينادي بصوته الجهور على آنسة جميلة مثل جنية بحر؛ تليق بانتمائها لمياه المتوسط ويطلب منها، وهو يرسم ابتسامة عريضة على شدقيه الكبيرين وجبهته العريضة، فيما كبر خديه الملظلظين، فنجانين من القهوة).
حسن: لا تركيز ولا حاجة؛ هي جت كدة شفتها كلبشت في قلبي وكأنها النصيب الحلو المتأخر من سنين.
حازم متشوقًا: حلوة قوي كدة؟
حسن: أجمل من رأت عيني على وجه الدنيا منذ خلق الله آدم وحواء إلى يومنا هذا.
حازم: أجمل من أنجلينا جولي كدة، ومونيكا بيلوتشي وكاترينا كيف والبنات المزز دي؟
حسن: أجمل نساء الأرض!
حازم متحمسًا: أجمل من كدة الحور العين (يقولها ضاحكًا) إنما بشر زينا كدة أعتقد صعب الحقيقة.
حسن مستغربًا: هو اللي بيحب حد يا حازم مش بيشوفة أجمل واحد في الدنيا!
حازم: اوصفهالي.
حسن: كأن الجمال خُلق لأجل عينيها السود الواسعتين وشعرها الأسود المسترسل. وجهها مدور كما القمر، تضحك فتشرق الشمس، تُكشّر فيذهب النور ويحل الظلام حتى القمر يصيبه الخسوف؛ فيصير وجهه مشوهًا ونوره ناقصًا. أنيقة كهوانم جاردن سيتي، واثقة قوية كفلسطينية تحمل بندقية لتجابه إسرائيليًا غازيًا دفاعًا عن العرض والشرف، خجولة يكسو الحياء قامتها من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، عطوفة وقاسية، شرسة وطيبة، عاقلة ومتهورة، حذائها مزركش تعكس ألوانه الزاهية ذوقها الرفيع واختياراتها المتميزة؛ وفي الأخير لا يختلف عليها اثنان يقدران أنثى بهذا القدر من الرصانة والجمال.
حازم: ياااااااه، كل ده بينا أخطبها لك يا عم وكفاية عذاب؛ قطعت قلبي.
حسن: كل شيء بأوان يا عم حازم؛ دعواتك.
لما غربت الشمس، بدا حازم متكورًا على نفسه من آثار صقيع مياه البحر داخل كرسيه المطل على ما لا نهاية؛ وعجزت شحومه المتكومة أسفل جلده أن تقيه شر البرد، فيما عاد صديقنا الولهان لشروده القديم.
أضاء النادي أنواره إيذانًا بقدوم الليل، وانعكست على وجه البحر فصنعت ألوانًا مبهجة. غير بعيد عنهما كان رجلًا في عقده السادس يرتدي لباسًا مهندمًا، مشدود القامة، متناسق البدن؛ بدا وكأنه عسكريًا متقاعدًا، يرفع صنارته من الماء محملة بسمكة بلطي ضخمة لولا رشاقته لرمت به في الماء، حينها رفع حازم وصديقه نظرات الإعجاب عن الرجل الوسيم.
بعد هذا المشهد، رحلت الشمس بخجل وحزن ظاهرين؛ كانت تأنس بالحديث الذي دار عن تلك التي أذابت عذوبتها روحًا مسكينة معذبة لا تملك من أمرها شيئًا، روحًا بكت للشمس والقمر والنجوم، وبثت شكواها للبحر ومخلوقاته جمعاء (المعلوم منها والمجهول).
هنا، انتهى الحديث عن الضيف القادم من خضم ضجيج القاهرة يشكي بلواه لمياه المتوسط، في حضرة صديق مقرب، بصمت طويل، فيما امتدت أيديهما لفنجانين من القهوة المنسية التي اختلطت بنسيم البحر البارد؛ فكان الرحيل لزامًا.