نيفين منصور تكتب: الفقراء يتزوجون أيضا
في القضايا الفقهية من الصعب أن نجادل أهل العلم والفقهاء إلا إذا تسرب إلي نفوسنا أن الرأي المذكور من أحدهم هو رأي شخصي .. لا علاقة له بما اتفق عليه جمهور الفقهاء والعلماء .. فقد تكون رؤية خاصة طرحها بعد متابعة لما يحدث من حوله من تشتت أو انهيار مجتمعي عند البعض .. أو ربما من كثرة الشكاوي التي يستمع إليها من الباحثين عن حل في أمور حياتهم التي قد تكون شديدة التعقيد..
ولكن عندما يصل الرأي إلي منطقة قد تكون محظورة وقد تُحدث بلبلة في المجتمع نستطيع أن نتساءل ونطرح بعض ما تعلمناه لنصل إلي صحة ما قيل ونقتنع برؤيته .. أو نحاوره بالحجة والبينة حتي تطمئن القلوب ..وخصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بالحرمانية .. فمعظم الناس مهما كانت ذنوبهم يتمسكون قدر المستطاع بالعقيدة التي تربوا عليها.. أملا منهم في المغفرة والرحمة يوم أن نلقي المولي عز وجل.
من أهم القضايا الجدلية والتي تثير الشك في القلوب هي قضية الزواج والطلاق وأحكام كل منهما فمنهم المندوب والمكروه والمحرم والمباح والمفروض.. ولكل منهما شروط حتي يصبح الزواج أو الطلاق صحيح.. روي عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.) و الباءة في اللغة العربية تعني الكفاءة المادية والعقلية والجسدية لطالب الزواج ..فإذا توفرت تلك الشروط فإن علي المرء أن يتزوج وخصوصا إذا كانت روحه تتعلق بالنساء فالزواج يعصمه من الفتن ومن الوقوع في الزنا.
ورغم ما تعنيه تلك الكلمة من ضرورة توفر القدرة والكفاءة المادية والعقلية والجسدية لطالب الزواج إلا أن تلك الأمور قد تكون نسبية وفقا للبيئة المحيطة بالمرء والمجتمع الذي نشأ فيه والمستوي العلمي والأدبي .. كما أنها متغيرة وفقا لاحتياجات كل منا،، ووفقا لمشاعره،، فقد تضحي المرأة بالارتباط بمن لديه القدرة المالية علي الإنفاق ،، في حالة الوقوع في الحب ،، وقد تترك الدنيا من خلفها ،، في سبيل أن تتزوج بمن سكن قلبها مهما كانت العواقب،، وفي هذه الحالة رغم عدم وجود القدرة علي الإنفاق إلا أن الزواج إذا اكتملت شروطه يصبح صحيحاً ويترك أمر القدرة علي الإنفاق للسعي والعمل وتقدير السميع العليم في توزيع الأرزاق.
وقد يحدث أمراً آخر ،، قد تقبل المرأة أو قد يقبل الرجل علي حد سواء بالزواج ممن ليس لديهم القدرة الجسدية السليمة،، فالبعض يرضي بالارتباط بمن هو مريض نظير قدرته علي الإنفاق أو من باب الحب أو لأسباب أخري ،، وعند اكتمال الشروط الخاصة بالزواج يصبح العقد صحيحاً هو الآخر ،، و ربما القلة من يلجأ للزواج بمن ليس لديهم القدرة العقلية والنفسية علي الزواج ،،، وتلك الحالات هي الأخري لها ظروفها الخاصة ويفتي فيها جمهور العلماء وفقا لوضع الحالة .
الملفت في العموم أن القدرة الصحية والقدرة علي الإنفاق كذلك القدرة النفسية والعقلية هي أمور متغيرة تتغير مع الزمن ،، فقد تتزوج إمرأة من رجل غني ولديه القدرة علي الإنفاق ثم تُفاجأ بأن القدر قد كتب عليهما الفقر والمعاناة ،، من بعد الثراء،،، ورغم ذلك يظل الزواج صحيحاً وحلال ولا تشوبه أي شائبة من شوائب الحرمانية ،، رغم فقدان الزوج لأهم شروط الباءة التي ذكرها رسولنا الكريم في حديثه الصحيح صلي الله عليه وسلم.
وقد يفقد الزوج القدرة الجسدية عن طريق وقوع حادث ما له أو بأي طريقة قدرية أخري بعد إتمام عقد الزواج الصحيح ،،، وهنا أيضا يكون قد فقد أحد العناصر المهمة من الباءة وهو القدرة علي إمتاع الزوجة جسديا ،، أو رعايتها ،، ويظل أيضاً الزواج صحيح وحلال،، حتي الشرط الثالث وهو القدرة النفسية والعقلية،،، ذلك الشرط أيضا قد يتغير فجأة بعد إتمام الزواج ،، ويصبح أيضاً الزواج صحيح ،، وفي تلك الحالات يُتْرك الأمر لرغبة الزوجة في الحفاظ علي تلك الزيجة أو الانفصال والبحث عن حياة أفضل ،، الأمر متروك للاختيار ،، ويظل الزواج في كل تلك الحالات صحيح وحلال ولا يمكن أن نصفه مهما كانت الآراء بأنه زواج حرام أو محرم،،، لأنه فقد أحد شروطه التي وضحها الفقهاء وليست الشروط الشرعية المذكورة في الكتاب والسنة. فكل ما يوضحه الفقهاء هو نتاج الاجتهاد الشخصي قد يتغير مع تغير المعطيات من حولهم في بعض الأمور التي لم يرد فيها نص صريح من القرآن والسنة.
لو راجعنا وتأملنا حياة رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم والصحابي الأولين،، سنجد معظمهم كانوا فقراء ،، وغير قادرين علي توفير المأكل والمشرب والمسكن المناسب وعاشوا حياتهم علي المعاناة والصبر والجهاد ،، ولكنهم كانوا يتزوجون ،،، رغم فقدانهم لبعض شروط الباءة ،، ونستطيع أن نستند علي بعض آيات الذكر الحكيم التي ورد فيها ذكر الفقراء ، كقوله تعالي ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ،، كما وضحت آيات الذكر الحكيم طرق الإنفاق في قوله تعالي وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ).
كما أن لرسولنا الكريم بعد الأحاديث التي وضح فيها لماذا تنكح المرأة وكيف يتم اختيار الزوج ،، حيث قال في رواية أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه : 'تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك'. وقد قال صلى الله عليه وسلم عن اختيار الزوج ' إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ' رواه الترمذي وغيره. وهنا نجد ما يحسم الجدل الذي قد يفتعله البعض ،، فالمال والصحة وغيرها من الأمور لا توازن قيمة الظافرين بالدين سواء رجل كان أم إمرأة،، وهذا الشرط هو سر نجاح أي علاقة ،، فالأمور المادية والجسدية نسبية أمام التقوي التي تفتح أبواب البركة والرزق والمغفرة حيث يقول المولي عز وجل في كتابه الكريم (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).