حسن عبد الجيل يكتب: المحطة المقبلة

«الحب.. يعيش بالحكي؛ ويموت بالكتابة، أما القصة فيخلدها التدوين»؛ اقتبسها من صديق مُقّرب حين أحسّ بعجزه عن التعبير عما يدور بداخله من مشاعر؛ تذبذب فؤاده وصارت الحيرة عنوان المرحلة؛ إلى أن هلّت عليه بطلعتها البهية.

أدار وجهه؛ حينما رآها قادمة على رأس الشارع؛ كان أمرا تلقائيًا استدعاه الموقف بالضرورة؛ فلا قلبه المنهك يتحمل النظر إلى جمال عينيها، ولا أصبح في موقع القوة القادرة على جعله صلبًا أمامها غير مكسور الجوارح.

حاول- مرارًا- أن يُثبّت لها أن الدنيا محطة تلو أخرى، ولكل منا نصيبه منها؛ وآن الوقت ليترجلا سويًا من قطار الحياة ويستقرا في محطتهما المقبلة. بينما كانت تدنو منه استرجع ذكراه الخالدة؛ لم يحك الأمر برمته؛ وما زال كالحاوي يحمل في جعبته الكثير.

بينما كانت تنظر للأهرامات بإعجاب، وفخر المزهو بعظمة أجداده، صبّت الشاي في أكواب صغيرة، تضع السكر بالقدر المناسب لكليهما، وتقلبه يدها اليمنى في ثبات، فيما حكت عينيها خوفًا أخفته أضلعها من المستقبل مع الشاب الجنوبي، الذي فضحت ملامحه سقوط قلبه المدو؛ في معركة غير متكافئة.

امتزج الشاي بضحكاتها الطفولية؛ فصار يحتسي ترياقًا يُداوي أفئدة عليلة؛ كان مهتمًا بحركاتها وسكناتها، حاول مرارًا إثنائها عن رفض دعوته للغداء؛ إلا أنها آثرت عدم القبول؛ لتناولها الطعام بالمنزل قبل أن تتوجه بسيارتها للقاء محتوم.

«فَلَيتكَ تحلو والحياةُ مريرةٌ .. وليتك ترضى والأنامُ غِضابُ .. وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ .. وبيني وبين العالمينَ خرابُ».. ردّد أبيات شعر أبي فراس الحمداني وهو غارق في جمال عينيها؛ كأسير كبلته القيود، وساقه الجلادون- منكسرًا- صوب ساحة العقاب.

منعه الخجل من تلاوة أشعار «الحمداني» على مسامعها؛ فلا هي أحست بنيران اللهفة تأكل قلبه الذي نفض غبار الجمود لتوه وعاد كما كان- يعشق وينبض-، ولا هو أزاح هذا الثقل خارج فؤاده الضعيف الذي يوشك على التوقف؛ إن لم يتلق جرعة إنعاش من رضا عينيها، وفيض مشاعرها.

عاود النظر إليها ولسان حاله يقول: «كيف لهذا اللقاء الأول أن يُصدّر كل هذا الصخب والضجيج؟»، ثم يعود ليحدثها من خلف ستار قلبه قائلا: «إلى السيدة الغريبة، للمرأة التي عشت معها حُبًا وهميًا؛ ورأيت في عينيها جحيم الفراق ونيرانه، الشوق الذي يكوي أضلُعي حدّ العذاب؛ لتلك التي احتلتني ملامحها، وسكنت تفاصيلها المذهلة أرجاء جوارحي؛ أحبك».

«أصبلك شاي كمان».. عاد من شروده على وقع صوتها الندي العذب يدعوه للعودة من العالم الآخر (عالم العاشقين)، فأجابها شاكرًا ألا حاجة له في المزيد. كانت الشمس قد شارفت على الغروب؛ واكتسى كبد السماء بحمرة تنذر بقدوم الليل؛ ما دعاها- فجأة- لطلب الرحيل.

حاول التماسك؛ راح يلملم أجزائه التي بعثرتها ضحكاتها وأنوثتها على سفح الأهرامات ومحيطها؛ حتى أن جده (أبوالهول) ضربته الغيرة من الحفيد الذي تغزلت حواسه بالفاتنة التي ربما ترافقه في محطته المقبلة.

حسن عبد الجليل يكتب: حين غربت الشمس