حسن عبد الجليل يكتب: «مأساة»

حين جلسا متقاربين على مقعديهما في إحدى مقاهي مصر القديمة؛ كانت الأجواء تبعث على السعادة؛ إلا أن تيهًا غزا عيونهما، وحزن مكتوم غلف جلستهما الكئيبة.

(1)

لما عاد من تيهه؛ كانت عيونها زائغة؛ فقدت بريقها ولمعانها، وضاعت وسط ضجيج الوافدين أمانيها المحطمة، وصخب العديد من الآلات الموسيقية التي علا صوتها وكأنها تخوض حرباً ضروس؛ سلب سعادتها المؤقتة.

(2)

ثبت نظره على ملامحها الجامدة، لوهلة استجمع ذاته وقرر أن يستردها من صراع الماضي؛ كان هو الآخر عائدا لتوه من ذكريات قديمة؛ فبادرها قائلاً: «نفسي أشتري سبحة من سيدنا الحسين؛ فدسّت يدها في حقيبة جلدية وأخرجت مسبحة منمقة؛ تمامًا كالتي رسمها في خياله، وقالت له: دي من عند سيدنا النبي».

(3)

انشرحت أساريره، وتحسن مزاجه؛ بعدما التقطها من يديها بلهفة المشتاق لزيارة المصطفى، والبكاء على عتبته الشريفة، وقال: «أحسن هدية من ريحة سيدنا النبي؛ هنا انقض جدار الصمت بينهما؛ وبدأ حديثهما، كانت لتوها خطت أيامها الأولى في العقد الخامس، وبدا عليها التأثر بعدما مرت أعوامها سُدى».

(4)

قالت، دون مقدمات: «ما استمتعتش بحياتي؛ أينعم عملت فلوس، واستقريت في شغلي، ومرتبي كويس، وعايشة حياتي؛ بس فقدت أهم حاجة»؛ هنا صمتت، وقبل أن تذهب في شرودها القديم سأل باهتمام جم: «ما هي؟»؛ أدارت رأسها نحوه بهدوء وأجابت: «نفسي اللي راحت مني ومش عارفة أرجعها؛ الأيام الحلوة اللي معشتهاش زي باقي البنات».

(5)

وأكملت حديثها بأسى: «كنت كباقي البنات حين طرق باب قلبي أحدهم؛ كان زميلي في العمل، وكنت معجبة به دون أن يدري، ترددت كثيرًا في أن أبدي تجاهه اهتمامًا ملحوظًا؛ حتى فوجئت به ذات مرة يطلب لقائي خارج العمل، لاحتساء فنجانًا من القهوة؛ فوجدتني أوافق بلا تردد».

(6)

حينما تهدج صوتها؛ أشفق عليها؛ فألقى بينهما دعابة قديمة رسمت على وجهها ابتسامة حزينة؛ بدت بلا شك مجاملة رقيقة، ولا علاقة لها بقريب أو بعيد بمفردات السعادة، أكملت: «ذاب قلبي مع أول رشفة لفنجان القهوة؛ كأنها السعادة أحتسيها تباعًا، وكأني أعيش للتو حياتي. عندما نظر في عيني؛ تسارعت دقات قلبي، وفقدت السيطرة على نفسي، وكنت هشة ضعيفة أمام ابتسامته الخجولة».

(7)

قال لي: «تردّدت كثيرا قبل أن أصارحك بمشاعري؛ إلا أنه لم يعد في القوس منزع، (صمت لبرهة فيما احمر وجهها خجلاً، ولم تتمالك نفسها، وبدت كطفلة تائهة وسط زحام من الخلق؛ جُلّ أمانيها أن تعود لأحضان أمها مرة أخرى)؛ أنا أحبك». وصفت حالها بعد هذه الجملة قائلة: «كأني ملكت الدنيا وما عليها؛ تفائلت بالمستقبل؛ ورحت أرسم أيامًا جميلة».

(8)

كان محدّثها يتلهف لجملتها المقبلة؛ ينظر إليها بثبات ملحوظ، وفي إنصات جم؛ سخّر حواسه، وانعزل عن ضجيج الشارع، ووجوه الغرباء؛ لم يسمع إلاها، كأنه يستعد لتدوين روايته الجديدة. فجأة امتقع لونها، وقبل أن تكمل روايتها المجهولة؛ دست يدها في الحقيبة وأخرجت مرآة؛ نظرت إليها بحزن ظاهر؛ وأعادتها سيرتها الأولى وقالت: «سرقوا عمري؛ وأضاعوا أجمل ما فيه».

(9)

عندما بادر بسؤالها عن اللصوص، قطع حديثهما بائع إكسسوار حريمي؛ كان طفلا في العاشرة من عمره، نحيل البدن، متواضع الملبس، خفيف الظل، جميل الملمح، تمكن برشاقته من صرفهما عن الماضي. بعد أن اشترت منه سوار المحبة، دعا لها بأعوام مديدة، وفيض من السعادة مع زوجها الجالس إلى جوارها؛ إلا أن رنين هاتفها قطع حديث البائع، وبعد أن نظرت إلى الشاشة قالت بحزم: «لازم أمشي دلوقتي».

حسن عبد الجليل يكتب: حين غربت الشمس

حسن عبد الجيل يكتب: المحطة المقبلة